الخميس، 28 أبريل 2011

(الْحِمَارُ الأَعْمَى يَقُودُ الْعَرَبَةَ نَحْوَ الْهَاوِيَةِ)))))


لَمْ يَسْتَطِعِ الْعَمُّ صَابِرٌ أَنْ يُغْمِضَ جَفْنَيْهِ مُنْذُ أُسْبُوعَيْنِ حِينَ سَقَطَ الْحِمَارُ الثَّانِي فِي الْحُفْرَةِ الْعَمِيقَةِ فِي أَقْصَى يَمِينِ الْمَدِينَةِ ، مُتَجَاهِلاً كُلَّ الإِشَارَاتِ الْحَمْرَاءِ ، وَتَحْذِيرَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الطَّيِّبِينَ الْبُسَطَاءِ وَسَائِقِي السَّيَّارَاتِ ، مُتَمَادِيًا فِي الْقَفْزِ نَحْوَ الْمَجْهُولِ ، لِيَلْحَقَ بِالْحِمَارِ الأَوَّلِ الَّذِي سَقَطَ فِي حُفْرَةٍ فِي أَقْصَى يَسَارِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ سَنَوَاتٍ 0
كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَعْبُرَ بِالْحِمَارِ وَالْعَرَبَةِ الْمُهَلْهَلَةِ الْقَدِيمَةِ كُلَّ الْحَوَاجِزِ ، كَمَا يَصْنَعُ الْفُرْسَانُ بِالأَحْصِنَةِ فِي سِبَاقَاتِ الْخُيُولِ 0
فِي الْمَرَّتَيْنِ أَخْرَجَ بَعْضُ الطَّيِّبِينَ الْعَمَّ صَابِراً مِنَ الْحُفْرَةِ ، لِيَظَلَّ أَمَامَ بَيْتِهِ الصَّغِيرِ عَاكِفًا عَلَى عَرَبَتِهِ الْخَشَبِيَّةِ يُصْلِحُ مَا تَكَسَّرَ مِنْهَا ، مُعْتَمِدًا عَلَى أَوْلادِ الْحَارَةِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ لا يَبْخَلُونَ فِي مُسَاعَدَتِهِ ، حَتَّى يَنْهَضَ مِنْ جَدِيدٍ ، وَتَعُودَ الْعَرَبَةُ جَاهِزَةً لِلْعُبُورِ فَوْقَ الْمَسَافَاتِ مِنْ طَرِيقٍ إِلَى طَرِيقٍ فِي رِحْلَةٍ لا تَنْتَهِي 0
000000
000000
000000
كَثِيرًا مَا يَتَسَلَّلُ ـ لَيْلاً ـ بَعْضُ لُصُوصِ الشَّوَارِعِ الْبَعِيدَةِ ، يَسْرِقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْعَمُّ صَابِرٌ مِنْ بَضَائِعَ مُقَابِلَ لُقْمَةِ عَيْشٍ ، وَكَثِيرًا مَا تَحَمَّلَ الْمِسْكِينُ ـ عَلَى فَقْرِهِ الشَّدِيدِ ـ تَسْدِيدَ ثَمَنِ مَا يُسْرَقُ مِنْ فَوْقِ الْعَرَبَةِ حِينَ يَنَامُ 0
عَاشَ عُمْرَهُ الطَّوِيلَ فَقِيرًا لا يَمْلِكُ قُوتَ الْيَوْمِ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْقُلُ ـ مِنْ أَقْصَى الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ ـ تِجَارَةَ أَثْرِيَاءِ الْمَدِينَةِ ، دُونَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ ، فَالرَّجُلُ هُوَ الصَّادِقُ الأَمِينُ الَّذِي لا يَعْرِفُ كَيْفَ يَكُونُ الْغَدْرُ 000 وَمِنْ أَيْنَ يَأْتِي الْخِنْجَرُ 000 مُتَحَمِّلاً حِرْمَانَهُ ، وَشَكْوَى الأَوْلادِ ، قَانِعًا بِمَا قَسَمَهُ اللهُ مِنْ رِزْقٍ ، شَاكِرًا عَلَى مَا يَتَبَقَّى مِنْ هَؤُلاءِ التُّجَّارِ الطَّامِعِينَ مِمَّا لا يَكَادُ يَكْفِي لِشِرَاءِ الْخُبْزِ لِلصِّغَارِ 0
000000
000000
000000
كَانَتِ الْحَيَاةُ تَسِيرُ حِينَ كَانَتْ تَجُرُّ الْخُيُولُ عَرَبَتَهُ الْقَدِيمَةَ ، لَكِنَّهُ شَارِدٌ مُنْذُ مَاتَ الْحِصَانُ الأَخِيرُ ، وَاضْطُرَّ إِلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْحِمَارَ ، فالْعَرَبَةُ تَكَادُ لا تَخْطُو إِلا مِنْ حُفْرَةٍ إِلَى أُخْرَى ، وَتَوَقَّفَتْ عَنْ سَيْرِهَا الْحَيَاةُ 000
ـ يَا عَمُّ صَابِرُ 00 الْحِمَارُ الْجَدِيدُ لَنْ يَسْتَطِيعَ جَرَّهَا ، وَرُبَّمَا سَقَطَ بِكَ فِي حُفْرَةٍ ، فَلا تَنْجُو هَذِهِ الْمَرَّةَ 000
ـ وَمَاذَا عَسَايَ أَنْ أَصْنَعَ ؟
ـ تَبِيعُ الْعَرَبَةَ الْقَدِيمَةَ بِحِمَارِهَا ، وَتَشْتَرِي سَيَّارَةً جَدِيدَةً 000
ـ لَكِنْ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرْكَبَهَا 0
ـ يَقُودُهَا أَوْلادُكَ 0
ـ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَظَلَّ دُونَ عَمَلٍ 0
ـ يَا عَمُّ صَابِرُ 000 اسْمَعْ كَلامَنَا 00
ـ كَفَى كَفَى 000 هَذِهِ الْمَرَّةَ سَيَنْجَحُ حِمَارِي فِي جَرِّ الْعَرَبَةِ 000 إِنَّهُ حِمَارٌ مُدَرَّبٌ ، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْبِقَ الْخُيُولَ 000
ـ الْعَرَبَةُ مِلْكُكَ ، وَأَنْتَ حُرٌّ 000 لَكِنْ لا تَلُومَنَّ إِلا نَفْسَكَ 000
ـ اللهُ مَعَنَا 
000000
000000
000000
فِي الصَّبَاحِ يُفِيقُ أَهْلُ الْحَارَةِ عَلَى بُكَاءِ الْعَمِّ صَابِرٍ ، وَصُرَاخِ أَوْلادِهِ فِي حُرْقَةِ أُمٍّ عَجُوزٍ مَاتَ صَغِيرُهَا الْوَحِيدُ 000
ـ مَا بِكَ يَا عَمُّ صَابِرُ ؟
ـ ضِعْتُ وَضَاعَ الأَوْلادُ
ـ مَاذَا حَدَثَ ؟
ـ سُرِقَتْ كُلُّ الْبِضَاعَةِ ، وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبَةُ فَارِغَةً 000
ـ وَمَنْ يَجْرُؤُ يَا عَمُّ صَابِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى هُنَا وَيَسْرِقَهَا ؟
ـ اللُّصُوصُ ـ مِنْ بَيْنِنا ـ كَثِيرُونَ يَا وَلَدِي ، والْعَرَبَةُ مَطْمَعُهُمْ جَمِيعًا 000 يَا خَرَابَ بَيْتِ عَمِّكَ صَابِرٍ 000
ـ اهْدَأْ يَا رَجُلُ 000 لا بُدَّ مِنْ حَلٍّ 000 لَنْ نَسْكُتَ هَذِهِ الْمَرَّةَ 000
فِي الْمَسَاءِ يَدْخُلُ الرِّجَالُ بُيُوتَهُمْ ، وَيُغْلِقُونَ الأَبْوَابَ جَيِّدًا ، لِيَظَلَّ الْعَمُّ صَابِرٌ وَحْدَهُ يَبْكِي مَعَ الصِّغَارِ تَلُفُّهُمْ أَحْزَانٌ جَدِيدَةٌ 000
يَغْشَى الْوُجُومُ بُيُوتَ الْحَارَةِ ، حِينَ يَضْرِبُ اللَّيْلُ بِسَوَادِهِ فَوْقَ سُطُوحِهَا 000
النَّاسُ جَمِيعُهُمْ ـ فِي صَمْتٍ ـ مَدْهُوشُونَ ، لا يَتَكَلَّمُونَ 000 
يَطُلُّونَ مِنَ النَّوَافِذِ الْحَدِيدِيَّةِ الضَّيِّقَةِ ، نَاظِرِينَ إِلَى الحِدَأَةِ ، الَّتِي تَخْطَفُ ـ كُلَّ مَسَاءٍ مِنْ بُيُوتِهِمُ الْفَقِيرَةِ ـ كَتَاكِيتَ الدَّجَاجِ الْحَزِينِ 000
يُنْصِتُونَ إِلَى صِيَاحِ الدَّجَاجَةِ الْمِسْكِينَةِ ، وَقَدْ خُطِفَتْ أَفْرَاخُهَا ، بَيْنَمَا تَظَلُّ الْحِدَأَةُ ، تَحْمِلُهَا بَيْنَ فَكَّيْهَا ، وَقَدْ سَالَتِ الدِّمَاءُ بَيْنَ أَنْيَابِهَا ، صَاعِدَةً أَشْجَارَ السَّنْطِ 000
تَعَوَّدَ أَهْلُ الْحَارَةِ عَلَى مَشْهَدِ الْحِدَأَةِ وَالْكَتَاكِيتِ بَعْدَ كُلِّ عِشَاءٍ ، دُونَ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ لِمَاذَا لا يُحَاوِلُونَ مَنْعَهَا 000
يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَارَةِ أَنَّ حَظِيرَةَ دَجَاجِهِ بَعِيدَةٌ عَنْ أَعْيُنِ الْحِدْآنِ ، وَلَيْسَ مُمْكِنًا أَنْ تَقْرَبَهَا يَوْمًا 000
000000
000000
000000
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي ، يَنْهَضُ الْعَمُّ صَابِرٌ ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَمْنَحَ الْفُرْصَةَ لِلْحِمَارِ الْجَدِيدِ ، لَعَلَّهُ يَنْجَحُ ، وَيَجُرُّ الْعَرَبَةَ هَذِهِ الْمَرَّةَ 000
الشَّمْسُ ـ فِي هَذَا الصَّبَاحِ الشِّتَائِيِّ ـ تَتَخَفَّى خَلْفَ الْغُيُومِ السَّوْدَاءِ ، تَطُلُّ لِلَحَظَاتٍ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ مِنْ سَاعَةٍ لأُخْرَى 000
الأَمْطَارُ تَتَزَايَدُ غَاسِلَةً بُيُوتَ الْمَدِينَةِ ، مَاسِحَةً أَوْجَاعَهَا 000
ـ تَوَكَّلْنَا عَلَى اللهِ 0
يَنْفُخُ الْعَمُّ صَابِرٌ بَيْنَ كَفَّيْهِ ، نَافِضًا بُرُودَةَ الصَّبَاحِ الْقَاسِيَةَ ، سَارِحًا فِي عِبَارَةِ الشَّيْخِ صَرْصَرٍ ، وَهُوَ يَخْطُبُ فِي الْجُمْعَةِ السَّابِقَةِ :
يَدَاكَ أَوْكَتَا وَفُوكَ نَفَخَ
مُتَأَمِّلاً تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْغَامِضَةَ دُونَ أَنْ يَفْهَمَ مَا كَانَ يَقْصِدُهُ الشَّيْخُ الْفَصِيحُ 000
يَرْبِطُ الْحِمَارَ فِي الْعَرَبَةِ ، مُبْتَسِمًا ، مُقَدِّمًا ـ فِي اسْتِعْطَافٍ ـ حِمْلَ الْبِرْسِيمِ ، مُشَجِّعًا لَهُ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ كَيْفَمَا شَاءَ حَتَّى يَشْبَعَ 000
يَقْفِزُ فَوْقَ الْعَرَبَةِِ ، مُمْسِكًا حِبَالَهَا بِيُسْرَاهُ ، وَالْكُرْبَاجَ بِيُمْنَاهُ ، ضَارِبًا فِي الْهَوَاءِ ضَرْبَتَيْنِ ، مُدَاعِبًا حِمَارَهُ ، ضَاحِكًا :
ـ سِرْ يَا وَلَدُ 000 سَابِقِ الرِّيحَ 000
تَنْطَلِقُ الْعَرَبَةُ ، يَجُرُّهَا الْحِمَارُ مُسْرِعَةً ، وَكُلَّمَا تَوَقَّفَ اللَّئِيمُ ـ يَضَعُ أَكْوَامَ الْبِرْسِيمِ الشَّهِيِّ ، وَالأَعْلافِ اللَّذِيذَةِ ، حَتَّى يَشْبَعَ وَيَسْتَرِيحَ ، لِتَنْطَلِقَ الْعَرَبَةُ ثَانِيَةً فِي خِفَّةٍ 000
فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ تَوَقَّفَ اللَّئِيمُ ، لَكِنَّ الْعَمَّ صَابِرًا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ ، وَضَرَبَ الْكُرْبَاجَ الْمَفْتُولَ فِي الْهَوَاءِ مَرَّتَيْنِ ، وَشَدَّ الْحِبَالَ عَنِيفًا 000
ـ هَيَّا يَا مَفْجُوعُ ، لَقَدْ أَكَلْتَ الْبِرْسِيمَ كُلَّهُ ، وَلَمْ يَتَبَقَ مِنَ التِّبْنِ وَالْعَلَفِ شَيْءٌ 000 
هَيَّا يَا طَمَّاعُ ، فَالطَّرِيقُ مَا زَالَ طَوِيلاً ، وَقَدْ نَفَدَ صَبْرِي 000
000000
000000
000000
كَالأَعْمَى ، يَنْدَفِعُ فِي شَرَهٍ إِلَى طَرِيقِ الْقَرْيَةِ التُّرَابِيِّ ، مُتَّجِهًا نَحْوَ حُقُولِ الْبِرْسِيمِ ، لا يُخِيفُهُ الْكُرْبَاجُ الَّذِي يُفَرْقِعُهُ الْعَمُّ صَابِرٌ مُهَوِّشًا فِي الْهَوَاءِ 000
يَشُدُّ الْحِبَالَ فِي اسْتِمَاتَةٍ 000
ـ تَوَقَّفْ أَيُّهَا الأَعْمَى 000 سَتَسْقُطُ بِنَا فِي الْهَاوِيَةِ 000
يَسْتَغِيثُ بِالْمُطِلِّينَ مِنَ النَّوَافِذِ ، يَنْظُرُونَ ـ فِي بَلادَةٍ ـ إِلَى الْحِدْآنِ ، خَاطِفَةً كَتَاكِيتَ الدَّجَاجِ ، غَيْرَ عَابِئِينَ 000
ـ تَوَقَّفْ أَيُّهَا الأَعْمَى 000 تَوَقَّفْ 000 أَمَامَنَا الحُفْرَةُ 000
يَسْقُطُ تَحْتَ الْعَجَلاتِ 000
يَصِيحُ الدَّجَاجُ 000
تَسِيلُ دِمَاءُ الْعَمِّ صَابِرٍ 000
تَصْعَدُ الْحِدَأَةُ أَعْلَى أَشْجَارِ السَّنْطِ الْبَعِيدَةِ 000
فِي إِصْرَارٍ ، يَتَجِهُ الْحِمَارُ نَحْوَ حُقُولِ الْبِرْسِيمِ الْخَضْرَاءِ 000
تَهْوِي عَجَلاتُ الْعَرَبَةِ 000
تَتَدَحْرَجُ فِي الحُفْرَةِ 000
تَسْقُطُ فِي الْهَاوِيَةِ 0

0 التعليقات:

إرسال تعليق